بدأت الحكاية عندما كنت أزور ابن عمى في شقته الجديدة بالقاهرة ..
و ابن عمى -جمال- انتقل إلى هذه الشقة بعد أن فقد زوجته في حادث مروع منذ شهرين .. هو لم يحب زوجته أبدا ..أعلم ذلك .. وهو يعلم أنني أعلم .. لكنه لم يصرح بذلك ..
وكان جمال بمثابة أخي الأكبر الذي ألجأ إليه دائما ..
اتصلت به منذ أيام أخبرته بأنني أريد قطعة أرض زراعية أقيم عليها المزرعة السمكية التي أحلم بها ..
منذ أن تخرجت من الكلية وأنا أحلم بهذا المشروع ولكن الحالة المادية لم تكن تسمح لذلك ..
و حتى هذا الوقت فالحالة المادية لا تسمح ..
لكن جمال أخبرني أننى من الممكن أن آخذ قرضا من البنك الذي يعمل به بضمان سيارتي و شقتنا بالزمالك التى أسكن بها أنا ووالدتى وأخوى الصغيرين ..
لو كانت وافقت والدتي على أن نبيع الشقة وننتقل لشقة أخرى لحلت المشكلة ..
لكنها رفضت بإصرار بحجة أن روح أبى مازالت تهيم بالشقة ..
و أبى هو العقيد/ منتصر الشيمي وهذه الشقة تابعة لإسكان الضباط بالزمالك ..
كان أبى مثالا للصحة والقوة والانضباط ..
على الرغم من تدخينه المستمر إلا أنه لم يبد على صحته أي شيء ..
ودون سابق إنذار اكتشفنا أن أبى مريض بالسرطان ..
وظلت حالته تتدهور تدريجيا .. وتم حجزه في مستشفى القوات المسلحة بالمعادى حتى توفي ..
كان هذا منذ أكثر من عامين .. "الله يرحمه " ..
المهم .. أنني اليوم ذاهب لجمال بعد أن أتصل بي ليخبرني أنه وجد قطعة أرض تصلح تماما لهذا المشروع ...
أحضرت حقيبة النقود التي أخفيتها داخل الدولاب حتى لا يراها أحد ..
لو رأت والدتي هذه الأموال فستكون ليلة طويلة ..
فأنا لم أخبرها بالقرض الذي أخذته ولا بالمشروع ..
و سأقوم بتنفيذ المشروع بكل سرعة حتى أستطيع أن أرد القرض قبل أن تنتهي المدة ..
و أول خطوة هي شراء قطعة الأرض التي سأقيم عليها المشروع ..
************
كان جمال في المطبخ يحضر كوب من الشاي .. قلت له وأنا متوجه للمطبخ :
- تعال يا جمال أنا لا أريد أن أشرب شيء ..
رد وهو يصب الماء المغلي في الأكواب :
- عيب يا محمد ..
قلت وأن آخذ منه الصينية :
- المهم عملت أيه في موضوع الأرض ..
قال وهو يتبعني خارج المطبخ :
- كل شيء تمام .. واتفقت مع صاحب الأرض أن نذهب إليه اليوم ..
قلت وأنا أضع الصينية على المنضدة الصغيرة المواجهة لكرسي جمال :
- لقد أحضرت النقود معي .
قال جمال وهو يهز رأسه :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. أنا قولتلك جبها ..
وكأنني لا أفعل إلا ما يطلبه منى ولكنها الحقيقة .. فقلت متسائلا :
- وفيها أيه ؟؟
قال بلهجة خشنة نوعا تعودت عليها منه في حالة العصبية :
- يا ابن الحلال أولا أنت لم ترَ قطعة الأرض حتى تقرر هل ستأخذها أم لا .. وثانياً نحن لم نتفق على السعر .. وثالثا نحن لن نسلم لهم المال إلا بعد كتابة العقد .. هل فهمت ؟؟
قلت مغمغما :
- فهمت .. ولكنك أيضا يا جمال لم تخبرني ..
قال بنفس لهجته الشديدة :
- وهل أنت صغير .. هل يجب أن أخبرك بكل شيء ..
لم أجد ما أفعله أمام هذا التوبيخ فالتقطت كوب الشاي ورشفت منه رشفة حتى يداري احمرار وجهي .. ثم وجدت ما أقوله ..
- وأين تقع قطعة الأرض هذه ..
قال وهو يخرج ورقة من جيبه ثم ناولني إياها ..
: في الغربية ..
كان موجود بهذه الورقة بعض المعلومات عن قطعة الأرض .. مساحتها ،وحدودها ،وأشياء أخرى لم أفهمها..
فلت قبل أن أفرغ من قراءة الورقة :
- أين في الغربية ..
نظر لي كأنه يتقزز من حالتي ثم قال:
- على حدود الغربية و كفر الشيخ ..
ثم أخرج جواله وأخرج رقما ما وآتى بتليفون المنزل ضغط عدة أرقام ثم وضع السماعة على أذنيه وددت أن أسأله سؤالا أخر لكنه نظر لي نظرة معناه ألا ترى أنني أتكلم في الهاتف أيها الغبي ..
تأخر الرد قليلا ثم رفع صوته كلما تحدث في التليفون :
- ألو... الحاج صلاح موجود .. قولي له جمال بك الشيمي ..
دائما يطلق على نفسه "بك" ولا أعلم لماذا ؟؟
صمت قليلا ثم رفع صوته مرة أخرى :
- كيف حالك يا حاج صلاح .. الحمد لله .. على العموم سنكون عندك في المنزل بعد آذان العصر بقليل نعاين الأرض ثم نعود مرة أخرى .. لا الله يخليك يا حاج ..
يبدو أن رده الأخير هذا كان بعد أن عرض عليه الحاج المبيت عنده ..
ثم رفع جمال صوته مرة أخرى :
- مع السلامة ..
ثم نظر لي جمال وهو يقول :
- هيا بنا حتى لا نتأخر .. فالطريق يأخذ ثلاث ساعات كاملة ..
قالها ثم دلف إلى الداخل وارتدى بذلته.. وشعرت به يخرج من غرفته بسبب رائحة العطر القوية التي يضعه ..خرج إلى الخارج وهو يعدل من مسدسه الخاص الذي يضعه في جانبه .. ناولني المفتاح وهو يقول :
- انتظرني في السيارة سأجرى تليفونا وأنزل لك حالا ..
*********************
كانت السيارة في مواجهة سلم العمارة .. ضغط على الزر في ريموت السيارة فأطلقت صفيرا صغيرا .. ثم توجهت للكرسي بجوار الموقد .. جلست في السيارة أنتظر جمال.. لم أجد ما أفعله ..
فأخرجت جوالي وأخذت أعبث به قليلا ..
لقد مللت.. نظرت نحو السلم .. وضعت الجوال أمامي على التابلوه..
ولكنه انزلق على أرض السيارة ..
نظرت أسفلي فلم أجده لابد أنه دخل تحت الكرسي ..
تحسست بيدي أسفل الكرسي ..
أصدمت يدي به ثم اصطدمت بشيء آخر يبدو أنه كيس بلاستيكي ..
أخرجت الجوال ووضعته بجيبي ..
ثم نظرت لتلك اللفافة الصغيرة ..
اختلست النظر نحو السلم .. لم يظهر جمال ..
فككت الكيس بسرعة .. كان بداخله قماشة بيضاء تلطخت بشيء أحمر لاشك أنه دماء ..
نظرت نحو السلم ..
بدأت أفتح اللفافة الصغيرة ..و أنا لا أستطيع أن أتوقع ما بداخلها .. شيء صلب هو مستطيل الشكل أصغر من حجم يدي ..
ما هو ؟؟ .. صدقني حتى هذه اللحظة لا أعرف ..
*************************
فتحت اللفافة .. كان بها أخر شيء أتوقعه ..
شريط كاسيت قديم وضع عليه ورقة وكتب عليها بخط رديء "عندما لا تستطيع كبح فضولك فلتواجه مخاوفك "
من هذا الغبي الذي كتب هذه الكلمات .. كان من الأسهل أن يكتب "الفضول قتل القط " ..
لكن الفضول يقتلني حقا ..
اختلست نظرة نحو السلم ..
ثم عدت للشريط ..
وضعته بسرعة في فم المسجل..بعد أن خفضت درجة الصوت تماما ..
صوت دوران الشريط ..
قدمت الشريط قليلا ..
صوت ضوضاء .. كأن أناس في قاعة ..
قدمت الشريط قليلا ..
صوت موسيقى ..
لا شك أن هذه أحد حفلات الراديو القديمة ..
نظرت نحو السلم كان جمال يهبط الدرجات بسرعة ..
أخرجت الشريط من الكاسيت ووضعت واللفافة أسفل الكرسي ..
وتفكيري كله يعمل محاولا تذكر هذه الموسيقى ..
*******************
جلس جمال خلف مقود سيارته ..
كان جمال من ذلك النوع الذي لا يحب أحد أن يكلمه أثناء القيادة ..
كان عقلي يعمل بسرعة ولكني لم أكن أريد أن يشعر جمال بما حدث .. فوضعت وجهي في الجريدة كأنني أقرأ .. .. أفكر قليلا ثم أنظر إلى الطريق ..
ما زلنا بالقاهرة .
أعود للجريدة مرة أخرى .. ثم أختلس نظرة على الطريق ..
لقد بدأ العمران يقل ..
أعود للجريدة مرة أخرى .. وعقلي يوشك أن ينفجر ..
ثم أشعر بأن جمال أزاد السرعة بدرجة عالية وارتفع صوت أبواق السيارات .. فأعلم أننا على الطريق السريع دون أن أنظر ..
عقلي يعمل .. أين سمعت هذه الموسيقى .. لكنى لا أستطيع التركيز بسبب هذه الاهتزازات ..
كانت بسبب الطريق الغير ممهد الذي نسير عليه .. فأعلم أننا اقتربنا من تلك القرية .. ماذا كان اسمها ؟؟ لا يهم ..
جمال ينظر يمنى ويسرة .. ثم يطلق سبة ..
أوقف جمال السيارة ثم نزل منها ..
أخرج جواله ثم ألقاه وهو يسبه .. فنزلت من السيارة وحاولت أن أتدخل لأعرف ماذا يحدث :
- خير يا جمال .. فيه أيه ؟؟
قال وهو ينفث الهواء كالتنين :
- لا توجد شبكة ..
قلت وقد بدت علامات التعجب على وجهي :
- وماذا في ذلك ..
نظر لي وعض على أسنانه وهو يقول :
- ألم تفهم يا غبي .. لقد ضللنا الطريق .. ولا يوجد أحد نسأله .. أكاد أجن .. أين ذهب الناس ..
نظرت للشمس فوجدتها مازالت في كبد السماء .. وطالما لم يأت موعد نومها بعد فما المشكلة ..
ركبت السيارة وتركت جمال يدخن سيجارته بدون إزعاج منى .. بالأصح لكي أبرد النار التي تلتهم عقلي ..
أخرجت الشريط ودسسته في الكاسيت ..بعد أن خفضت درجة الصوت تماما ..
بدأ الشريط من المقطع الموسيقى ..موسيقى هادئة هي .. أذكرها لكنى لا أستطيع تمييزها ..
نظرة نحو جمال ..
قدمت الشريط بسرعة .. أصوات تصفيق ..
لابد أنها أحد حفلات أم كلثوم أو عبد الحليم ..
قدمت الشريط .. كان عبد الحليم بصوته الرائع :
- عدى النهار .. والمغربية جاية .. تتخفى ورا .. ضهر الشجر ..
جعلتنى كلماته أنظر للسماء وأنا أقول بكل نشوة :
- الله عليك يا حُلم ..
بينما صوت عبد الحليم يتابع :
- وعشان نتوه في السكة .. شالت .. من ليااااالينا القمر ..
أرتفع صوت التصفيق وسرت فى جسدي قشعريرة بعد هذا الكلام العذب ..
- وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها ...جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها ..
كنت مستمتع بالأغنية إلى أقصى حد فلم أنتبه إلى جمال إلا وهو يفتح باب السيارة ..
جلس جمال خلف المقود وهم بقول شيء لكن صوت عبد الحليم قاطعه :
- يا هل ترى الليل الحزين .. أبو النجوم الدبلانين ..
وما أن سمع جمال صوت حليم حتى وأصبح كالمصعوق .. أخرج الشريط بسرعة ونظر إليه مشدوها للحظة .. كأنه يتأكد من شيء ..
ثم نظر لي كالمصعوق وأمسكني من ثيابي وهو يصرخ :
ما الذي فعلته بنا أيها الغبي ؟؟
*********************************
كان جمال يمسك بثيابي ويهزني بكل قوة :
- ما الذي فعلته ؟؟ ما الذي فعلته ؟؟من أين جئت بهذا الشريط ؟؟
- لقد وجدته أسفل الكرسي ؟؟
خرج جمال من السيارة وهو يغمغم :
كيف .. كيف ..
ودفع الباب بقوة ... وخرج للخارج يركل الأرض بكل قوة ..
ويصيح بكلمات لم أفهمها ..ثم أراح جسده على السيارة وأخرج سيجارة وأشعلها ..
كل هذا وأنا جالس مشدوها مما حدث ..
لماذا يفعل كل هذا ؟؟
كل هذا من أجل الشريط ..
ما الذي يخفيه جمال عنى ؟؟
وما بقعة الدم الموجودة على قطعة القماش التي كانت تغلف الشريط ..
خرجت من السيارة ودفعت الباب خلفي بقوة كما فعل جمال وصرخت به :
- ما الذي تخفيه يا جمال ؟؟
نظر لي نظرة لا مبالية ثم نفث دخان السيجارة .. فعدت أصيح به :
- ماذا هناك يا جمال ؟؟
نظر لي بجانب عينيه ثم قال بلهجة شملت كل معاني اللامبالاة :
- لا شيء يا محمد ..
ثم صرخ في وهو يقول :
- لقد قضى علينا... هذا كل شيء ..
*****************************
و ابن عمى -جمال- انتقل إلى هذه الشقة بعد أن فقد زوجته في حادث مروع منذ شهرين .. هو لم يحب زوجته أبدا ..أعلم ذلك .. وهو يعلم أنني أعلم .. لكنه لم يصرح بذلك ..
وكان جمال بمثابة أخي الأكبر الذي ألجأ إليه دائما ..
اتصلت به منذ أيام أخبرته بأنني أريد قطعة أرض زراعية أقيم عليها المزرعة السمكية التي أحلم بها ..
منذ أن تخرجت من الكلية وأنا أحلم بهذا المشروع ولكن الحالة المادية لم تكن تسمح لذلك ..
و حتى هذا الوقت فالحالة المادية لا تسمح ..
لكن جمال أخبرني أننى من الممكن أن آخذ قرضا من البنك الذي يعمل به بضمان سيارتي و شقتنا بالزمالك التى أسكن بها أنا ووالدتى وأخوى الصغيرين ..
لو كانت وافقت والدتي على أن نبيع الشقة وننتقل لشقة أخرى لحلت المشكلة ..
لكنها رفضت بإصرار بحجة أن روح أبى مازالت تهيم بالشقة ..
و أبى هو العقيد/ منتصر الشيمي وهذه الشقة تابعة لإسكان الضباط بالزمالك ..
كان أبى مثالا للصحة والقوة والانضباط ..
على الرغم من تدخينه المستمر إلا أنه لم يبد على صحته أي شيء ..
ودون سابق إنذار اكتشفنا أن أبى مريض بالسرطان ..
وظلت حالته تتدهور تدريجيا .. وتم حجزه في مستشفى القوات المسلحة بالمعادى حتى توفي ..
كان هذا منذ أكثر من عامين .. "الله يرحمه " ..
المهم .. أنني اليوم ذاهب لجمال بعد أن أتصل بي ليخبرني أنه وجد قطعة أرض تصلح تماما لهذا المشروع ...
أحضرت حقيبة النقود التي أخفيتها داخل الدولاب حتى لا يراها أحد ..
لو رأت والدتي هذه الأموال فستكون ليلة طويلة ..
فأنا لم أخبرها بالقرض الذي أخذته ولا بالمشروع ..
و سأقوم بتنفيذ المشروع بكل سرعة حتى أستطيع أن أرد القرض قبل أن تنتهي المدة ..
و أول خطوة هي شراء قطعة الأرض التي سأقيم عليها المشروع ..
************
كان جمال في المطبخ يحضر كوب من الشاي .. قلت له وأنا متوجه للمطبخ :
- تعال يا جمال أنا لا أريد أن أشرب شيء ..
رد وهو يصب الماء المغلي في الأكواب :
- عيب يا محمد ..
قلت وأن آخذ منه الصينية :
- المهم عملت أيه في موضوع الأرض ..
قال وهو يتبعني خارج المطبخ :
- كل شيء تمام .. واتفقت مع صاحب الأرض أن نذهب إليه اليوم ..
قلت وأنا أضع الصينية على المنضدة الصغيرة المواجهة لكرسي جمال :
- لقد أحضرت النقود معي .
قال جمال وهو يهز رأسه :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. أنا قولتلك جبها ..
وكأنني لا أفعل إلا ما يطلبه منى ولكنها الحقيقة .. فقلت متسائلا :
- وفيها أيه ؟؟
قال بلهجة خشنة نوعا تعودت عليها منه في حالة العصبية :
- يا ابن الحلال أولا أنت لم ترَ قطعة الأرض حتى تقرر هل ستأخذها أم لا .. وثانياً نحن لم نتفق على السعر .. وثالثا نحن لن نسلم لهم المال إلا بعد كتابة العقد .. هل فهمت ؟؟
قلت مغمغما :
- فهمت .. ولكنك أيضا يا جمال لم تخبرني ..
قال بنفس لهجته الشديدة :
- وهل أنت صغير .. هل يجب أن أخبرك بكل شيء ..
لم أجد ما أفعله أمام هذا التوبيخ فالتقطت كوب الشاي ورشفت منه رشفة حتى يداري احمرار وجهي .. ثم وجدت ما أقوله ..
- وأين تقع قطعة الأرض هذه ..
قال وهو يخرج ورقة من جيبه ثم ناولني إياها ..
: في الغربية ..
كان موجود بهذه الورقة بعض المعلومات عن قطعة الأرض .. مساحتها ،وحدودها ،وأشياء أخرى لم أفهمها..
فلت قبل أن أفرغ من قراءة الورقة :
- أين في الغربية ..
نظر لي كأنه يتقزز من حالتي ثم قال:
- على حدود الغربية و كفر الشيخ ..
ثم أخرج جواله وأخرج رقما ما وآتى بتليفون المنزل ضغط عدة أرقام ثم وضع السماعة على أذنيه وددت أن أسأله سؤالا أخر لكنه نظر لي نظرة معناه ألا ترى أنني أتكلم في الهاتف أيها الغبي ..
تأخر الرد قليلا ثم رفع صوته كلما تحدث في التليفون :
- ألو... الحاج صلاح موجود .. قولي له جمال بك الشيمي ..
دائما يطلق على نفسه "بك" ولا أعلم لماذا ؟؟
صمت قليلا ثم رفع صوته مرة أخرى :
- كيف حالك يا حاج صلاح .. الحمد لله .. على العموم سنكون عندك في المنزل بعد آذان العصر بقليل نعاين الأرض ثم نعود مرة أخرى .. لا الله يخليك يا حاج ..
يبدو أن رده الأخير هذا كان بعد أن عرض عليه الحاج المبيت عنده ..
ثم رفع جمال صوته مرة أخرى :
- مع السلامة ..
ثم نظر لي جمال وهو يقول :
- هيا بنا حتى لا نتأخر .. فالطريق يأخذ ثلاث ساعات كاملة ..
قالها ثم دلف إلى الداخل وارتدى بذلته.. وشعرت به يخرج من غرفته بسبب رائحة العطر القوية التي يضعه ..خرج إلى الخارج وهو يعدل من مسدسه الخاص الذي يضعه في جانبه .. ناولني المفتاح وهو يقول :
- انتظرني في السيارة سأجرى تليفونا وأنزل لك حالا ..
*********************
كانت السيارة في مواجهة سلم العمارة .. ضغط على الزر في ريموت السيارة فأطلقت صفيرا صغيرا .. ثم توجهت للكرسي بجوار الموقد .. جلست في السيارة أنتظر جمال.. لم أجد ما أفعله ..
فأخرجت جوالي وأخذت أعبث به قليلا ..
لقد مللت.. نظرت نحو السلم .. وضعت الجوال أمامي على التابلوه..
ولكنه انزلق على أرض السيارة ..
نظرت أسفلي فلم أجده لابد أنه دخل تحت الكرسي ..
تحسست بيدي أسفل الكرسي ..
أصدمت يدي به ثم اصطدمت بشيء آخر يبدو أنه كيس بلاستيكي ..
أخرجت الجوال ووضعته بجيبي ..
ثم نظرت لتلك اللفافة الصغيرة ..
اختلست النظر نحو السلم .. لم يظهر جمال ..
فككت الكيس بسرعة .. كان بداخله قماشة بيضاء تلطخت بشيء أحمر لاشك أنه دماء ..
نظرت نحو السلم ..
بدأت أفتح اللفافة الصغيرة ..و أنا لا أستطيع أن أتوقع ما بداخلها .. شيء صلب هو مستطيل الشكل أصغر من حجم يدي ..
ما هو ؟؟ .. صدقني حتى هذه اللحظة لا أعرف ..
*************************
فتحت اللفافة .. كان بها أخر شيء أتوقعه ..
شريط كاسيت قديم وضع عليه ورقة وكتب عليها بخط رديء "عندما لا تستطيع كبح فضولك فلتواجه مخاوفك "
من هذا الغبي الذي كتب هذه الكلمات .. كان من الأسهل أن يكتب "الفضول قتل القط " ..
لكن الفضول يقتلني حقا ..
اختلست نظرة نحو السلم ..
ثم عدت للشريط ..
وضعته بسرعة في فم المسجل..بعد أن خفضت درجة الصوت تماما ..
صوت دوران الشريط ..
قدمت الشريط قليلا ..
صوت ضوضاء .. كأن أناس في قاعة ..
قدمت الشريط قليلا ..
صوت موسيقى ..
لا شك أن هذه أحد حفلات الراديو القديمة ..
نظرت نحو السلم كان جمال يهبط الدرجات بسرعة ..
أخرجت الشريط من الكاسيت ووضعت واللفافة أسفل الكرسي ..
وتفكيري كله يعمل محاولا تذكر هذه الموسيقى ..
*******************
جلس جمال خلف مقود سيارته ..
كان جمال من ذلك النوع الذي لا يحب أحد أن يكلمه أثناء القيادة ..
كان عقلي يعمل بسرعة ولكني لم أكن أريد أن يشعر جمال بما حدث .. فوضعت وجهي في الجريدة كأنني أقرأ .. .. أفكر قليلا ثم أنظر إلى الطريق ..
ما زلنا بالقاهرة .
أعود للجريدة مرة أخرى .. ثم أختلس نظرة على الطريق ..
لقد بدأ العمران يقل ..
أعود للجريدة مرة أخرى .. وعقلي يوشك أن ينفجر ..
ثم أشعر بأن جمال أزاد السرعة بدرجة عالية وارتفع صوت أبواق السيارات .. فأعلم أننا على الطريق السريع دون أن أنظر ..
عقلي يعمل .. أين سمعت هذه الموسيقى .. لكنى لا أستطيع التركيز بسبب هذه الاهتزازات ..
كانت بسبب الطريق الغير ممهد الذي نسير عليه .. فأعلم أننا اقتربنا من تلك القرية .. ماذا كان اسمها ؟؟ لا يهم ..
جمال ينظر يمنى ويسرة .. ثم يطلق سبة ..
أوقف جمال السيارة ثم نزل منها ..
أخرج جواله ثم ألقاه وهو يسبه .. فنزلت من السيارة وحاولت أن أتدخل لأعرف ماذا يحدث :
- خير يا جمال .. فيه أيه ؟؟
قال وهو ينفث الهواء كالتنين :
- لا توجد شبكة ..
قلت وقد بدت علامات التعجب على وجهي :
- وماذا في ذلك ..
نظر لي وعض على أسنانه وهو يقول :
- ألم تفهم يا غبي .. لقد ضللنا الطريق .. ولا يوجد أحد نسأله .. أكاد أجن .. أين ذهب الناس ..
نظرت للشمس فوجدتها مازالت في كبد السماء .. وطالما لم يأت موعد نومها بعد فما المشكلة ..
ركبت السيارة وتركت جمال يدخن سيجارته بدون إزعاج منى .. بالأصح لكي أبرد النار التي تلتهم عقلي ..
أخرجت الشريط ودسسته في الكاسيت ..بعد أن خفضت درجة الصوت تماما ..
بدأ الشريط من المقطع الموسيقى ..موسيقى هادئة هي .. أذكرها لكنى لا أستطيع تمييزها ..
نظرة نحو جمال ..
قدمت الشريط بسرعة .. أصوات تصفيق ..
لابد أنها أحد حفلات أم كلثوم أو عبد الحليم ..
قدمت الشريط .. كان عبد الحليم بصوته الرائع :
- عدى النهار .. والمغربية جاية .. تتخفى ورا .. ضهر الشجر ..
جعلتنى كلماته أنظر للسماء وأنا أقول بكل نشوة :
- الله عليك يا حُلم ..
بينما صوت عبد الحليم يتابع :
- وعشان نتوه في السكة .. شالت .. من ليااااالينا القمر ..
أرتفع صوت التصفيق وسرت فى جسدي قشعريرة بعد هذا الكلام العذب ..
- وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها ...جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها ..
كنت مستمتع بالأغنية إلى أقصى حد فلم أنتبه إلى جمال إلا وهو يفتح باب السيارة ..
جلس جمال خلف المقود وهم بقول شيء لكن صوت عبد الحليم قاطعه :
- يا هل ترى الليل الحزين .. أبو النجوم الدبلانين ..
وما أن سمع جمال صوت حليم حتى وأصبح كالمصعوق .. أخرج الشريط بسرعة ونظر إليه مشدوها للحظة .. كأنه يتأكد من شيء ..
ثم نظر لي كالمصعوق وأمسكني من ثيابي وهو يصرخ :
ما الذي فعلته بنا أيها الغبي ؟؟
*********************************
كان جمال يمسك بثيابي ويهزني بكل قوة :
- ما الذي فعلته ؟؟ ما الذي فعلته ؟؟من أين جئت بهذا الشريط ؟؟
- لقد وجدته أسفل الكرسي ؟؟
خرج جمال من السيارة وهو يغمغم :
كيف .. كيف ..
ودفع الباب بقوة ... وخرج للخارج يركل الأرض بكل قوة ..
ويصيح بكلمات لم أفهمها ..ثم أراح جسده على السيارة وأخرج سيجارة وأشعلها ..
كل هذا وأنا جالس مشدوها مما حدث ..
لماذا يفعل كل هذا ؟؟
كل هذا من أجل الشريط ..
ما الذي يخفيه جمال عنى ؟؟
وما بقعة الدم الموجودة على قطعة القماش التي كانت تغلف الشريط ..
خرجت من السيارة ودفعت الباب خلفي بقوة كما فعل جمال وصرخت به :
- ما الذي تخفيه يا جمال ؟؟
نظر لي نظرة لا مبالية ثم نفث دخان السيجارة .. فعدت أصيح به :
- ماذا هناك يا جمال ؟؟
نظر لي بجانب عينيه ثم قال بلهجة شملت كل معاني اللامبالاة :
- لا شيء يا محمد ..
ثم صرخ في وهو يقول :
- لقد قضى علينا... هذا كل شيء ..
*****************************